فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها}.. هو مواجهة للذين ظلّوا على كفرهم من أهل الكتاب، والذين أقاموا على شركهم من المشركين بعد أن جاءتهم البينة.. فهؤلاء وأولئك جميعا سيلقون في نار جهنم خالدين فيها.. وهؤلاء وأولئك هم شر البرية، أي شر الخلق.. لأنهم لم يؤمنوا وقد جاءتهم البينة، التي جمعت البنيان كله، واشتملت على الهدى جميعه، فكانت آياتها قائمة بين الناس، يلقونها في كل لحظة، ويديرون عقولهم وقلوبهم إليها في كل زمان ومكان، ولم تكن آياتها آيات عارضة، تلقاها حواسّ من يشهدونها ساعة من نهار، ثم نزول فلا ترى أبد الدهر، كما رأى الراءون من آيات موسى، وعيسى عليهما السلام.. وإنما هي آيات تعايش الإنسان، وتصحبه ما شاء أن تصحبه وتعيش معه..
والحق حين تتضح آياته هذا الوضوح المشرق، وحين يتجلى وجهه هذا التجلي المبين، يكون منكره، والحائد عنه، أشدّ الناس ضلالا، وأكثرهم عنادا، وأبعدهم عن الخير، وأقربهم إلى الشر.. {أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}..
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.
أي الذين آمنوا بهذا الدّين وعملوا الصالحات، أولئك هم خير الخلق جميعا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، إذ ألبسهم إيمانهم باللّه، وأعمالهم الصالحة في ظل هذا الإيمان- لباس التقوى، فكانوا هم عباد اللّه، وكانوا أهل ودّه، ولهذا كان جزاؤهم عند ربهم هذا الجزاء الكريم: {جنات عدن} أي جنات خلود واستقرار، تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، لا يتحولون عنها.. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} فأدخلهم في جنّاته، وأفاض عليهم من نعيمه. {وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضوا عن ربّهم، وحمدوه، وشكروا له هذا النعيم الذي هم فيه.. وذلك النعيم والرضوان، إنما هو لمن خشى ربّه، واتقاه، وخاف مقامه.
هذا، ويلاحظ هنا أمران:
أولهما: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد جاء الحديث عنهم مطلقا من غير قيد الإضافة إلى أهل الكتاب، أو المشركين، فلم يجئ النظم القرآني هكذا: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أهل الكتاب والمشركين}.. كما جاء في الآية السابقة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ}- وذلك لأن الذين يؤمنون باللّه ويعملون الصالحات في جميع الأحوال والأزمان داخلون في ساحة المؤمنين بشريعة الإسلام..
سواء أكان هذا الإيمان عن دعوة رسول وكتاب، أو عن دعوة العقل، وإلهام الفطرة، فالمؤمن باللّه حيث كان، وحيث كان مصدر إيمانه، هو لا حق بهؤلاء المؤمنين، وهو ملاق هذا الجزاء الذي يجزى به المؤمنون..
أما حصر الكافرين هنا في الذين كفروا من أهل الكتاب، والذين كفروا من المشركين، بعد أن جاءتهم البينة- فهو تشنيع على هذا الوجه الكريه الغليظ من وجوه الكفر، في مواجهة هذا الصبح المشرق، الذي لا ينكره إلا مكابر، ولا يكفر به إلا من ختم اللّه على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، ومن هنا كانوا شرّ البريّة على الإطلاق، كما كان المؤمنون بشريعة الإسلام خير البرية على الإطلاق كذلك.
وثانى الأمرين: هو أن وعيد الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالخلود في النّار- لم يقيّد بلفظ التأبيد {أبدا} بل جاء مطلقا هكذا: {خالِدِينَ فِيها} على حين جاء وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالخلود في الجنة مؤبدا.. هكذا {خالِدِينَ فِيها أَبَدًا}.
فما تأويل هذا؟
نقول- واللّه أعلم- إن تأبيد الخلود في الجنة، هو أمر عام لكل من أكرمه اللّه بدخول الجنة، وأخذ مكانه فيها، ونزل منزله منها.. فإنه لا يتحول أبدا عن هذا المنزل، وإن كان ثمة تحول فهو إلى منزل آخر في الجنة، أعلى من منزله الذي هو فيه.. فخلود أهل الجنة في الجنة، خلود مؤبد لكل من دخلها.. أما أهل النار.. فإن كثيرا ممن يدخلها من عصاة المؤمنين، لا يخلدون فيها، بل يتحولون عنها إلى الجنة، بعد أن ينالوا جزاءهم من العذاب في النار، وأما الذين يخلدون في النار فهم أهل الكفر، وحسبهم من العذاب أن يكون خالدا، أي طويلا ممتدّا إلى ما شاء اللّه.. فمعنى الخلود هنا هو امتداد الزمن وطوله، كما يفهم من قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يخلده، ويمد له في عمره زمنا طويلا..
ثم إن هؤلاء الخالدين في النار، هم بعد ذلك إلى مشيئة اللّه، في تأييد هذا الخلود أو توقيته، وهذا ما يفهم من قوله تعالى في أصحاب النار: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} وقوله تعالى بعد ذلك في أصحاب الجنة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (106- 108: هود).
ففى جانب المخلدين في النار جاء قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} مؤذنا بأن للّه سبحانه وتعالى فعلا آخر في أهل النار غير هذا الخلود، بعد أن يستوفوه.. ولا ندرى ما هو.. غير أن رحمة اللّه التي وسعت كل شيء لا تقصر عن أن تنال هؤلاء الخالدين في النار ببعض آثارها.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
أما في جانب المخلدين في الجنة، فقد جاء قوله تعالى: {عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} مؤذنا بأن هذا العطاء الذي أعطوه في الجنة، لن ينقطع أبدا.. واللّه أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معًا ثم خَصَّ أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإِبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها.
أعقبه بوعيد الفريقين جمعًا بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة.
فالجملة استئناف ابتدائي، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعًا لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة، ولأن معظم الرد كان موجهًا إلى أحوالهم من قوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} إلى قوله: {دين القيمة} [البينة: 4، 5]، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك.
و{مِن} بيانية مثل التي في قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1].
وتأكيد الخبر بـ: {إنّ} للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، فإن الظرفية التي اقتضتها {في} تفيد أنهم غير خارجين منها، وتأكد ذلك بقوله: {خالدين فيها}، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأسًا.
والإِخبارُ عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول: زيد في نعمة.
وجملة: {أولئك هم شر البريئة} كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي.
والبريئة: فعيلة من بَرأ الله الخلق، أي صورهم.
ومعنى كونهم {شر البريئة} أنهم أشد الناس شرًا، ف {شر} هنا أفعل تفضيل أصله أشر مثل خير الذي هو بمعنى أخير، فإضافة {شر} إلى {البريئة} على نية {مِن} التفضيلية.
وإنما كانوا كذلك لأنهم ضلوا بعد تلبسهم بأسباب الهدى، فأما أهل الكتاب فلأن لديهم كتابًا فيه هدى ونور فعدلوا عنه، وأما المشركون فلأنهم كانوا على الحنيفية فأدخلوا فيها عبادة الأصنام ثم إنهم أصرّوا على دينهم بعدما شاهدوا من دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به القرآن من الإِعجاز والإِنباء بما في كتب أهل الكتاب، وذلك مما لم يشاركهم فيه غيرهم فقد اجتنوا لأنفسهم الشر من حيث كانوا أهلًا لنوال الخير فحسرتهم على أنفسهم يوم القيامة أشد من حسرة من عداهم فكان الفريقان شرًا من الوثنيين والزنادقة في استحقاق العقاب لا فيما يرجى منهم من الاقتراب.
وأقحم اسم الإِشارة بين اسم {إنَّ} وخبرها للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإِشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإِشارة كما في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
وتوسيط ضمير الفصل لإِفادة اختصاصهم بكونهم شر البريئة لا يشاركهم في ذلك غيرهم من فرق أهل الكفر لما علمت آنفًا.
ولا يرد أن الشياطين أشد شرًا منهم لما علمت أن اسم البريئة اعتبر إطلاقه على البشر.
و{البريئة} قرأه نافع وحده وابنُ ذكوان عن ابن عامر بهمز بعد الياء فعيلة من برأ اللَّهُ، إذا خلق.
وقرأه بقية العشرة بياء تحتية مشددة دون همز على تسهيل الهمزة بعد الكسرة ياء وإدغام الياء الأولى في الياء الثانية تخفيفًا.
وإثبات الهمزة لغة أهل الحجاز، والتخفيف لغة بقية العرب، كما تركوا الهمز في الدَّرِيَّة والنبيّ.
قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة بالهمز غير أنهم تركوا الهمز في النبيّ كما تركوه في: الدَّرِيَّة والبَرِيَّة إلا أهل مكة فإنهم يهمزونها ويخالفون العرب في ذلك.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} قوبل حال الكفرة من أهل الكتاب وحالُ المشركين بحال الذين آمنوا بعد أن أشِير إليهم بقوله: {وذلك دين القيمة} [البينة: 5]، استيعابًا لأحوال الفِرق في الدنيا والآخرة وجريا على عادة القرآن في تعقيب نذارة المنذَرين ببشارة المطمئنين وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم، وقدم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نظم الكلام المتقدم في ضدهم ليكون ذكر وعدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم فإن الله شكور.
والجملة استئناف بياني ناشئ عن تكرر ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلًا عن حالهم لعل تأخر إيمانهم إلى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يَجعلهم في انحطاط درجةٍ، فجاءت هذه الآية مبينة أن من آمن منهم هو معدود في خير البريئة.
والقول في اسم الإِشارة، وضمير الفصل والقصر وهمز البريئة كالقول في نظيره المتقدم.
واسم الإِشارة والجملة المخبر بها عنه جميعها خبر عن اسم {إن}.
وجملة: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} إلى آخرها مبيِّنة لجملة: {أولئك هم خير البريئة}.
و{عند ربهم} ظرف وقع اعتراضًا بين {جزاؤهم} وبين {جنات عدن} للتنويه بعِظَم الجزاء بأنه مدَّخر لهم عند ربهم تكرمةً لهم لما في {عند} من الإِيماء إلى الحظوة والعناية، وما في لفظ ربهم من الإِيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه {عندَ}، وما يناسب شأن من يَرُب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان.
وإضافة: {جنات} إلى {عدن} لإِفادة أنها مسكنهم لأن العَدْن الإِقامة، أي ليس جزاؤهم تنزهًا في الجنات بل أقوى من ذلك بالإِقامة فيها.
وقوله: {خالدين فيها أبدًا} بشارة بأنها مسكنهم الخالد.
ووصف الجنات بـ: {تجري من تحتها الأنهار} لبيان منتهى حسنها.
وجَرْيُ النهر مستعار لانتقال السيْل تشبيهًا لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي.
والنهر: أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه.
وإسناد الجري إلى الأنهار توسع في الكلام لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر.
وجعل جزاء الجماعة جمعَ الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع، أي لكل واحد جنة كقوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} [البقرة: 19] وقولك: ركب القوم دوابَّهم، ويجوز أن يكون لكل أحد جنات متعددة والفضل لا ينحصر قال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46].
وجملة: {رضي الله عنهم} حال من ضمير {خالدين}، أي خالدين خلودًا مقارنًا لرضى الله عنهم، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضى الله عنهم، وذلك أعظم مراتب الكرامة قال تعالى: {ورضوان من اللَّه أكبر} [التوبة: 72] ورِضَى الله تعلق إحسانه وإكرامه لعبده.
وأما الرضى في قوله: {ورضوا عنه} فهو كناية عن كونهم نالهم من إحسان الله ما لا مطلب لهم فوقه كقول أبي بكر في حديث الغار: «فشَرب حتى رضيتَ»، وقول مخرمة حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قَباءً: «رَضِيَ مخرمة». وزاده حُسْن وقع هنا ما فيه من المشاكلة.
{عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ}. تذييل آت على ما تقدم من الوعد للذين آمنوا والوعيد للذين كفروا بُيّن به سبب العطاء وسبب الحرمان وهو خشية الله تعالى بمنطوق الصلة ومفهومها.
والإِشارة إلى الجزاء المذكور في قوله: {جزاؤهم عند ربهم} يعني أن السبب الذي أنالهم ذلك الجزاء هو خشيتهم الله فإنهم لما خشوا الله توقعوا غضبه إذا لم يصغوا إلى من يقول لهم: إني رسول الله إليكم، فأقبلوا على النظر في دلائل صدق الرسول فاهتدوا وآمنوا، وأما الذين آثروا حظوظ الدنيا فأعرضوا عن دعوة رسول من عند الله ولم يتوقعوا غضب مرسله فبقوا في ضلالهم.
فما صدْقُ: {من خشي ربه} هم المؤمنون، واللام للملك، أي ذلك الجزاء للمؤمنين الذين خشوا ربهم فإذا كان ذلك ملكًا لهم لم يكن شيء منه ملكًا لغيرهم فأفاد حرمان الكفرة المتقدم ذكرهم وتم التذييل. وفي ذكر الرب هنا دون أن يقال: ذلك لمن خشي الله، تعريض بأن الكفار لم يرعوا حق الربوبية إذ لم يخشوا ربهم فهم عبيد سوء. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب}
أي اليهودُ والنَّصارَى وإيرادُهم بذلكَ العنوانِ للإشعارِ بعلةِ ما نُسبَ إليهمْ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ فإنَّ مناطَ ذلكَ وجدانُهم لَهُ في كتابِهم وَإِيرادُ الصلةِ فعلًا لما أنَّ كُفرهم حادثٌ بعدَ أنبيائِهم {والمشركين} أيْ عبدةِ الأصنامِ وقرئ وَالمشركونَ عطفًا على الموصولِ {مُنفَكّينَ} أي عمَّا كانُوا عليهِ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ والعزمِ على إنجازِه وهَذَا الوعدُ من أهلِ الكتابِ مما لا ريبَ فيه حَتَّى إنَّهم كانُوا يستفتحونَ ويقولونَ: اللهمَّ افتحْ علينَا وانصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ ويقولونَ لأعدائِهم منَ المشركينَ: قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرمَ وأما منَ المشركينَ فلعلَّهُ قدْ وقعَ من متأخريهمْ بعدَ مَا شَاعَ ذلكَ من أهلِ الكتابِ واعتقدوا صحتَهُ بَمَا شاهدُوا من نصرتهم على أسلافهم كما يشهدُ به أنهم كانوا يسألونهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هلْ هُوَ المذكورُ في كتابِهم وكانوا يغرونَهُم بتغييرِ نعوتِه عليهِ السلام وانفكاكُ الشيءِ أنْ يزايَلَهُ بعدَ التحامِه كالعظمِ إذا انفكَّ من مفصلِه وفيهِ إشارةٌ إلى كمالِ وكادةِ وعدِهم أيْ لم يكُونوا مفارقينَ للوعدِ المذكورِ بلْ كانُوا مجمعينَ عليهِ عازمينَ على إنجازِه {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} التي كانُوا قد جعلوا إتيانها ميقاتًا لاجتماعِ الكلمةِ والاتفاقِ عَلى الحقِّ فجعلوه ميقاتًا للانفكاكِ والافتراقِ وإخلافِ الوعدِ والتعبيرُ عن إتيانِها بصيغةِ المضارعِ باعتبارِ حالِ المحكيِّ لا باعتبارِ حالِ الحكايةِ كما في قوله تعالى: {واتبعوا مَا تتلُواْ الشياطين} أي تلتْ وقوله تعالى: {رَّسُولٍ} بدلٌ منَ البينةِ عبرَ عنه عليهِ السلام بالبينةِ للإيذانِ بغاية ظهورِ أمرهِ وكونِه ذلكَ الموعودَ في الكتابينِ وقوله تعالى: {مِنَ الله} متعلق بمضمرٍ هو صفةٌ لرسولٍ مؤكدٍ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ منْهُ وقوله تعالى: {يَتْلُو} صفة أخرى أو حال من الضمير في متعلق الجارِّ {صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} أيْ منزهةً عنِ الباطلِ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلقهِ أو من أنْ يمسَّهُ غيرُ المطهرينَ ونسبةُ تلاوتِها إليه عليهِ السلام منْ حيثُ إنَّ تلاوةَ مَا فيها بمنزلةِ تلاوتِها.
وقوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} صفةٌ لصحفًا أوْ حالٌ منْ ضميرِها من مطهرةٍ ويجوزُ أنْ يكونَ الصفةُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فَقَطْ وكتبٌ مرتفعًا بِه على الفاعلية ومَعْنى قيمةٌ مستقيمةٌ ناطقةٌ بالحقِّ والصوابِ. وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلخ كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ وتغليظِ جناياتِهم ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمر بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ وتبينِ الحالِ وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبئِ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلاوُ بعدَ ذكِرَهم فيما سبقَ بما هُوَ جارٍ مَجْرَى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ ولَمَّا كانَ هؤلاءِ وَالمشركونَ باعتبارِ اتفاقِهم عَلَى الرأي المذكورِ في حكمِ فريقٍ واحد عبرَ عَمَّا صدرَ عنهمْ عقيبَ الاتفاقِ عندِ الإخبارِ بوقوعِه بالانفكاكِ وعندَ بيانِ كيفيةِ وقوعِه بالتفرقِ اعتبارِ الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانًا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي أخر بل بطريق الاختلاف القديم وقوله تعالى.
{إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إلا منْ بعدِ ما جاءتُهمْ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها كقوله تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} وقوله تعالى: {وَمَا أمرواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} جملةٌ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ قبحِ ما فعلُوا أيْ والحالُ أنَّهم ما أمروا بَما أمروا في كتابِهم إلا لأجلِ أنْ يعبدُوا الله، وقيلَ: اللامُ بمَعْنى أنْ أي إلا بأنْ يعبدُوا الله، ويعضدُه قراءة إلا أنْ يعبدُوا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي جاعلين دينَهُم خَالِصًا له تعالى أو جاعلين أنفسَهُم خالِصةً لَهُ تعالى في الدِّينِ.
{حُنَفَاء} مائلينَ عن جميعِ العقائدِ الزائغةِ إلى الإسلامِ {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة} إنْ أُريدَ بهما ما في شريعتِهم من الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمر ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما في شريعتِنا فمَعْنى أمرهم بهما في الكتابينِ أنَّ أمرهُم باتباعِ شريعتِنا أمر لهم بجميعِ أحكامِها التي هُمَا من جُملتها.
{وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من عبادةِ الله تعالى بالإخلاصِ وإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعدِ منزلتِه.
{دِينُ القيمة} أي دينُ الملةِ القيمةِ، وقرئ الدينُ القيمةُ على تأويلِ الدينِ بالملةِ. هذا وقد قيلَ: قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى قوله كتبٌ قيمةٌ حكايةٌ لما كانُوا يقولونَهُ قبلَ مبعثِه عليهِ السلام من أنَّهم لا ينفكونَ عنْ دينِهم إلى مَبْعثِه ويعدون أنْ ينفكُّوا عنه حينئذٍ ويتفقوا على الحقِّ وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيانٌ إلخ لإخلافِهم الوعدَ وتعكيسِهم الأمر بجعلِهم ما هُو سببٌ لانفكاكِهم عن دينِهم الباطلِ حسبَما وعدُوه سببًا لثباتِهم عليهِ وعدمِ انفكاكِهم عنه ومثلُ ذلكَ بأنْ يقول الفقيرُ الفاسقُ لمن يعظهُ لا أنفكُّ عمَّا أنَا فيه حتَّى أستغني فيستغني فيزدادُ فسقًا فيقول له واعظُه لم تكنْ منفكًَّا عن الفسقِ حتى توسرَ وما عكفتَ على الفسقِ إلا بعدَ اليسارِ، وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا إنَّما يتسنّى بعد اللَّتيا والتي على تقديرِ أنْ يرادَ بالتفرقِ تفرقُهم عن الحقِّ بأنْ يقال التفرقُ عن الحقِّ مستلزمٌ للثباتِ على الباطلِ فكأنَّه قيلَ: وما أجمعُوا على دينِهم إلا منْ بعدِ ما جاءتْهُم البينةُ وأما على تقديرِ أنْ يُرادَ به تفرقُهم فرقًا فمنُهم من آمنَ ومنُهم من أنكرَ ومنُهم من عرفَ وعاندَ كَمَا جوَّزه القائلُ فلا فتأملْ.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين في نَارِ جَهَنَّمَ} بيانٌ لحالِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد بيانِ حالِهم في الدُّنيا، وذَكَرَ المشركينَ لئلاَّ يتوهَم اختصاصُ الحكمِ بأهلِ الكتابِ حسبَ اختصاصِ مشاهدةِ شواهدِ النبوةِ في الكتابِ بهم ومَعْنى كونِهم فيها أنَّهم بصيرونَ إليها يومَ القيامةِ، وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للإيذان بتحقق مضمونِها لا محالةَ أو أنَّهم فيها الآنَ إما على تنزيل ملابستِهم لما يوجبُها منزلَة ملابستِهم لها وإنَّا عَلى أنَّ ما هُم فيهِ من الكفرِ والمَعاصي عينُ النارِ إلا أنَّها ظهرتْ في هذِه النشأةِ بصورةٍ عَرَضيةٍ وستخلعُها في النشأة الآخرةِ وتظهرُ بصورتِها الحقيقيةِ كَما في قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} في سورة الأعرافِ.
{خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في الخبرِ، واشتراكُ الفريقينِ في دخولِ دارِ العذابِ بطريقِ الخُلودِ لا يُنافِي تفاوتَ عذابِهم في الكيفيةِ فإنَّ جهنَم دركاتٌ وعذابَها ألوانٌ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتَّصافِهم بما هُم فيه من القبائحِ المذكورةِ وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ البعداءُ المذكورونَ {هُمْ شَرُّ البرية} شرُّ الخليقةِ أي أعمالًا وهو الموافقُ لما سيأتِي في حقِّ المؤمنينَ فيكونُ في حيزِ التعليلِ لخلودِهم في النارِ، أو شرُّهم مقامًا ومصيرًا فيكونَ تأكيدًا لفظاعةِ حالِهم، وقرئ بالهمز على الأصل.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} بيانٌ لمحاسن أحوالِ المؤمنينَ إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الكفرةِ جريا على السنةِ القرآنيةِ من شفعِ الترهيبِ بالترغيبِ {أولئك} المنعوتونَ بَما هُو في الغايةِ القاصيةِ من الشرفِ والفضيلةِ من الإيمان والطاعة.
{هُمْ خَيْرُ البرية} وقرئ خيارُ البريةِ وهو جمعُ خيِّر، نحوٌ جيدٌ وجيادٌ.
{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلةِ ما لهُم من الإيمانِ والطاعةِ {عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} إنْ أُريد بالجنَّاتِ الأشجارُ الملتفةُ الأغصانِ كمَا هو الظاهرُ، فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ، وإنْ أُريدَ بها مجموعُ الأرضِ ومَا عليها فهُو باعتبارِ الجزءِ الظاهرِ، وأيًّا ما كانَ فالمرادُ جريانُها بغيرِ أخدودٍ.
{خالدين فِيهَا أَبَدًا} متنعيمنَ بفنونِ النعمِ الجُسمانيةِ والروحانيةِ وفي تقديمِ مدحِهم بخيرية البريةِ وذكرِ الجزاءِ المؤذنِ بكونِ ما مُنحوهُ في مقابلةِ ما وُصفوا بهِ وبيان كونِه من عندِه تعالى والتعرضِ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التربيةِ والتبليغ إلى الكمالِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم وجمعِ الجنَّاتِ وتقييدِها بالإضافةِ وبما يزيدُها نعيمًا وتأكيدًا الخلودِ بالأبودِ من الدلالةِ على غايةِ حُسنِ حالِهم ما لا يَخْفى.
{رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ مبينٌ لما يتفضلُ عليهم زيادةً على ما ذُكرَ من أجزيةِ أعمالِهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} حيثُ بلغُوا من المطالبِ قاصيتَها وملكُوا من المآربِ ناصيتَها وأُتيحَ لهم ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشرٍ {ذلك} أيْ ما ذُكرَ من الجزاءِ والرضوانِ {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإنَّ الخشيةَ التي هيَ من خصائصِ العلماءِ بشؤونِ الله عزَّ وجلَّ مناطٌ لجميعِ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ المستتبعةِ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ. والتعرضُ لعُنوانِ الربوبيةِ المعربةِ عن المالكيةِ والتربيةِ للإشعارِ بعلَّةِ الخشيةِ والتحذيرِ من الاغترارِ بالتربيةِ. اهـ.